لطالما استهوت فكرة الكائنات الفضائية والأجسام الطائرة المجهولة خيال الجماهير، وشكّلت محورًا للعديد من الأفلام والكتب والروايات. لكن ما لم يكن في الحسبان أن تكون بعض هذه الأساطير من إنتاج المؤسسة العسكرية الأمريكية ذاتها، وفي مقدمتها البنتاغون، الذي كشف تحقيق استقصائي حديث أنه لعب دورًا فاعلًا في تضليل الرأي العام على مدى عقود، مستخدمًا نظرية المؤامرة ستارًا لإخفاء برامجه العسكرية السرّية.
البداية من حانة... والسر في "المنطقة 51"
في ثمانينيات القرن الماضي، دخل عقيد في سلاح الجو الأمريكي حانة بسيطة قرب "المنطقة 51" في صحراء نيفادا، وبدأ بتوزيع صور لأجسام طائرة مجهولة. لم يكن الهدف توثيق حادثة غريبة أو مشاركة اكتشاف علمي، بل كان جزءًا من خطة محكمة لصرف أنظار المدنيين عن برنامج عسكري بالغ السرية، هو تطوير مقاتلة الشبح F-117.
أراد العسكريون آنذاك أن يعتقد السكان المحليون أنهم رأوا شيئًا من عالم آخر، عوضًا عن الشك في تجارب عسكرية متقدمة قد تُعرض الأمن القومي للخطر أو تكشف للاتحاد السوفيتي عن ورقة ضغط استراتيجية.
طقوس “يانكي بلو”.. مناورات نفسية داخلية
لكن القصة لم تقف عند حدود الحانة أو مجموعة من الصور المزيفة. وفقًا لتحقيق "وول ستريت جورنال"، فقد خضع ضباط جدد في سلاح الجو لطقوس غريبة عُرفت باسم "يانكي بلو"، حيث تُعرض عليهم صور مزيفة لمركبات فضائية ويُقال لهم إنها تكنولوجيا من خارج كوكب الأرض، تمّت هندستها عكسيًا. ثم يُهدد هؤلاء الضباط بعقوبات قاسية تصل إلى الإعدام إذا أفشوا أي كلمة.
تلك الطقوس لم تكن سوى وسيلة لتعزيز الأسطورة داخل المؤسسة نفسها، وترسيخ سردية الخيال لتصبح حاجزًا نفسيًا يحول دون تسريب الحقائق الحقيقية.
التقرير السري وتضارب الروايات
خلال السنوات الأخيرة، وتحديدًا بناءً على أمر من الكونجرس، شرع فريق من المحققين في وزارة الدفاع الأمريكية في مراجعة دقيقة للادعاءات والقصص التي أحاطت بالأجسام الطائرة المجهولة منذ منتصف القرن العشرين.
النتيجة كانت اكتشاف مذهل يفيد بأن البنتاغون نفسه لعب دورًا رئيسيًا في تغذية هذه القصص، ليس لأن الكائنات الفضائية حقيقية، بل لأنها أداة فعالة في إخفاء ما لا يجب أن يُرى.
رغم أن التقرير العلني الصادر عن وزارة الدفاع عام 2024 نفى وجود مؤامرة للتستر على حقيقة الكائنات الفضائية، إلا أنه أغفل عمدًا تفاصيل مهمة، كان من شأنها فضح التاريخ الطويل من التضليل المؤسسي.
تضليل مُمنهج أم اجتهادات محلية؟
ما يزال المحققون يحاولون فكّ اللغز الأكبر.. هل كان انتشار هذه المعلومات المضللة نتيجة تصرفات فردية من بعض الضباط، أم أنه كان جزءًا من سياسة مركزية موجهة من داخل أروقة السلطة العسكرية؟
التحقيقات لم تحسم بعد، لكن المؤكد أن قيادة سلاح الجو الأمريكي ضغطت بشدة لحذف بعض الأجزاء الحساسة من التقرير قبل نشره، بحجة الحفاظ على الأمن القومي ومنع الضرر بمسيرة بعض المسؤولين.
هوليوود، الإعلام، والجمهور المخدوع
عبر العقود، غذّى الإعلام الأمريكي والسينما الهوليوودية هذه السرديات بشكل لافت. من أفلام "اللقاء القريب" إلى مسلسل "إكس فايلز"، باتت فكرة الأجسام الطائرة والكائنات الفضائية من المُسلّمات الثقافية.
لكن الجديد اليوم هو أن كثيرًا مما ظنّه الناس خيالًا أو مبالغة، كان في الحقيقة خطة رسمية لإخفاء برامج عسكرية، تُنفذ بذكاء مستفيد من الذعر الشعبي والخيال الجمعي.
لحظة الحقيقة.. اعترافات متأخرة
في عام 2023، اعترف العقيد المتقاعد الذي بدأ الخطة في ثمانينياته لمحققي البنتاغون بأن كل الصور التي نشرها كانت مفبركة. واعترف بأن الهدف الحقيقي لم يكن خداع الناس بشأن زوار من المجرات البعيدة، بل إخفاء برنامج الطائرات الشبحية المتقدمة التي كانت تُجرّب سرًا في المنطقة 51، في ذروة الحرب الباردة.
وبرغم صدمة الاعتراف، فإن هذا التصريح يُعد أحد مفاتيح فهم العلاقة الملتبسة بين الحقيقة والخيال، بين الأمن القومي والتلاعب بالمعلومات.
الحقيقة أقرب من الخيال
في عالم تتشابك فيه الأسرار العسكرية مع أحلام الناس، ويختلط فيه الأمن القومي بالأساطير، قد يكون من الصعب التمييز بين ما هو واقعي وما هو جزء من استراتيجية تضليل محكمة.
لكن تحقيق "وول ستريت جورنال" الأخير، وما تلاه من اعترافات وتحقيقات رسمية، يقدم صورة مغايرة عن إحدى أكثر الظواهر غموضًا في الثقافة الأمريكية، ليتبين في النهاية أن من روّج لنظريات المؤامرة حول الأجسام الطائرة المجهولة، لم يكن سوى الحكومة نفسها
0 تعليق