في زمنٍ تتفاقم فيه وتيرة التغيرات المناخية، وتزداد فيه الضغوط السكانية على الموارد، تقف الدول على مفترق طرق حاسم: إما أن تعيد صياغة استراتيجياتها التنموية على أساس من التكامل والتكافل بين قطاعاتها الحيوية، أو أن تستسلم لفوضى الفجوات الاقتصادية والتنموية.
إن ما نشهده اليوم من تحديات في الأمن الغذائي، وارتفاع كلفة الإنتاج، وتدهور سلاسل الإمداد، ليس سوى أعراض لمرضٍ عميق اسمه “الانفصال الهيكلي بين الزراعة والصناعة”. فكيف نرأب هذا الصدع؟ وكيف نعيد هندسة العلاقة بين الحقل والمصنع، ليصبحا جناحين متكاملين لنمو اقتصادي شامل ومستدام؟.
منذ فجر الحضارات، كانت الزراعة أساس الاستقرار البشري، بينما جاءت الصناعة لتضيف قيمة مضافة على هذا الإنتاج الزراعي. لا يمكن تصور صناعة غذائية قوية دون قاعدة زراعية متينة، ولا يمكن للزراعة أن تنمو بمعزل عن الآلات، والمخصبات، وتقنيات التعبئة والنقل التي توفرها الصناعة.
إذًا، العلاقة بين الزراعة والصناعة ليست علاقة اختيار، بل علاقة ضرورة تفرضها طبيعة التنمية الشاملة.
ورغم وضوح هذه العلاقة، إلا أن الواقع يُظهر فجوة واضحة بين القطاعين في كثير من الدول، خاصة في المنطقة العربية ومصر. نرى وفرة في الإنتاج الزراعي أحيانًا، لكن يقابلها ضعف في قدرات التصنيع والتخزين والتسويق. ونرى مصانع غذائية تستورد مواد خام كان يمكن توفيرها محليًا، لولا ضعف التنسيق وسوء التخطيط الزراعي الصناعي المشترك. هذا التناقض يُظهر هشاشة المنظومة الإنتاجية، ويفضح غياب النظرة التكاملية في إدارة الموارد.
تحقيق التنمية المستدامة لا يمكن أن يتم عبر جهود فردية أو قطاعية منعزلة، بل يتطلب تكاملًا أفقيًا ورأسيًا بين القطاعات، وخاصة الزراعة والصناعة، نظرًا لارتباطهما المباشر بالأمن الغذائي والتشغيل والقيمة المضافة.
التكامل الزراعي الصناعي يؤدي إلى خلق سلاسل قيمة تبدأ من الزرع وتنتهي على أرفف الأسواق، وتوفر فرص عمل جديدة، وتقلل من الفاقد في المنتجات الزراعية، وتعزز من قدرات الدولة على الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وهو ما يعزز الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
تفعيل هذا التكامل يبدأ من التخطيط القومي المتكامل، ويتجسد من خلال رسم خريطة زراعية صناعية موحدة، وتفعيل الحوافز الاستثمارية للصناعات الغذائية والزراعية بالقرب من مناطق الإنتاج، وتحديث البنية التحتية للنقل والتخزين والتبريد، فضلًا عن دعم المزارع التعاقدي والتصنيع التشاركي بين الفلاحين والمصنعين. كما يجب إنشاء منصات رقمية ذكية تُيسر التنسيق بين المزارعين والمصنعين والموزعين، وتحقق الكفاءة الاقتصادية في إدارة الموارد.
دول مثل الهند والبرازيل وهولندا تقدم نماذج ملهمة في هذا المجال.. فهولندا، على سبيل المثال، نجحت في جعل كل كيلو بطاطس يُزرع مرتبطًا بمنظومة رقمية تتبعه حتى يدخل مصنع رقائق البطاطس، ما يعني أن التكامل هنا ليس مجرد تنسيق، بل منظومة مدروسة تُدار بالعلم والابتكار.
ومن وجهة نظري، أؤمن بأن مستقبل مصر الاقتصادي مرهون بمدى قدرتها على إلغاء الخط الوهمي بين الزراعة والصناعة. نحن بحاجة إلى عقل استراتيجي يفهم أن القيمة الحقيقية لا تكمن في الإنتاج وحده، بل في ما نضيفه إليه من تصنيع وتعبئة وتسويق وابتكار. التكامل ليس ترفًا تنمويًا، بل ضرورة اقتصادية وأمن قومي. لدينا في مصر العقول، والكوادر، والموارد، وما نحتاجه فقط هو الإرادة والرؤية والتنسيق المؤسسي بين كل الأطراف.
إن تعزيز التكامل بين الزراعة والصناعة هو مفتاح عبورنا نحو اقتصاد إنتاجي قوي، لا اقتصاد ريعي هش. ولن يتحقق هذا إلا عبر رؤية واضحة، وشراكة مجتمعية واعية، وإرادة تنفيذية تعرف أن كل حبة قمح لا تُصنَّع ولا تُستثمر، هي فرصة ضائعة في معركة التنمية. فلنزرع بفكر صناعي، ولنُصنّع بروح زراعية، لنحصد وطنًا أكثر أمنًا، واستدامة، وكرامة.
0 تعليق