17 يونيو 2025, 6:35 مساءً
هل سبق أن شعرت بأن شيئاً ما في حضور بعض الأشخاص يمنحك الطمأنينة، أو على العكس، يجعلك تنكمش دون سبب واضح؟ تلك اللغة الصامتة لا تُترجم بالكلمات، بل تُقرأ في نظرة، وتُفهم من نبرة، وتُفسَّر بإحساس. ليست سحراً ولا حدساً خارقاً، بل هي إحدى ملامح الذكاء العاطفي.
كثيراً ما لمستُ في مسيرتي المهنية، أن الناس يمرّون بتجارب مختلفة في فهم مشاعرهم ومشاعر من حولهم. أحياناً يُخلط بين الحضور الاجتماعي أو الكاريزما التي تجذب الأنظار، وبين ذلك الوعي العميق بالمشاعر الذي يُسمى "الذكاء العاطفي". فهذا النوع من الذكاء ليس مجرد بريق أولي، بل هو رحلة داخلية تتطلب صبراً واهتماماً، وتشغل مساحات أعمق بكثير مما يبدو على السطح، وقد يختلط كذلك بالذكاء الاجتماعي، لكنّهما مختلفان. فالذكاء الاجتماعي هو القدرة على فهم الآخرين والتفاعل معهم بفعالية في المواقف الاجتماعية المختلفة، مثل اللقاءات، والمحادثات، والعمل الجماعي. إنه يعتمد على مهارات التواصل، وقراءة لغة الجسد، والتعاطف مع الآخرين. بينما الذكاء العاطفي ينبع من الداخل، من فهمنا لمشاعرنا أولاً، ثم قدرتنا على التعامل مع مشاعر الآخرين بتوازن ورحمة، وما أجده أكثر عمقاً، أن الذكاء العاطفي لا يُستخدم فقط لجذب الأشخاص الذين نُعجب بهم أو نرتاح إليهم، بل يصبح أكثر قيمة حين نحتاجه لفهم من نختلف معهم، أو من تسببوا لنا بأذى، أو من مرّوا في حياتنا بعلاقة لم تكتمل. هو البوصلة التي تقودنا وسط ضجيج المشاعر نحو توازن لا يخلو من الحنان، ولا يتخلى عن الحزم.
الذكاء العاطفي، هو القدرة على إدراك مشاعرنا والتعامل معها بوعي واتزان، وفهم مشاعر الآخرين والتفاعل معها بتعاطف وذكاء، ويتضمن هذا النوع من الذكاء مهارات مثل: الوعي الذاتي، وتنظيم الانفعالات، وتحفيز الذات، وفهم مشاعر الآخرين، وبناء علاقات صحية، وهو ليس حكراً على فئة معيّنة، بل مهارة يمكن تطويرها. بعض الناس يطوّرونها من خلال تجاربهم، وآخرون من خلال القراءة، أو التواجد مع من يمتلكون هذه المهارة، أو عبر تدريبات موجّهة. الأهم أن ندرك أنه متاح للجميع، ما دمنا نمنح أنفسنا لحظات من الصدق مع الذات.
ولمن يتساءل: من أين أبدأ؟
فالبداية غالباً تكون من ملاحظة بسيطة، كأن تراقب ردة فعلك حين تُنتقَد، أو حين تمرّ بلحظة أو انزعاج داخلي أو خيبة أمل. خُذ نفساً عميقاً، تمهّل، واسأل نفسك: ما الذي أشعر به فعلاً؟ ولماذا؟، وفي الأحاديث اليومية، حاول أن تستمع دون مقاطعة، وأن تُعيد ما فهمته من الطرف الآخر لتؤكّد على حضورك وفهمك. راقب نبرة صوتك وتعابير وجهك، وتعلّم أن تقول "لا" بلطف، و "شكراً" بامتنان، و"أنا آسف" دون تبرير حين تُخطئ. تخيّل مشهداً يزعجك، وحاول أن ترى دوافع الآخر فيه، لا لتُبرر له، بل لتوسّع زاوية رؤيتك. مارس لحظة صمت في بداية يومك، واسأل نفسك: كيف أشعر اليوم؟
هذه اللحظات الصغيرة ليست ترفاً، بل طريق هادئ لبناء وعي جديد. ففي عالم يزداد فيه الضجيج، يصبح الذكاء العاطفي مساحة داخلية نلجأ إليها، نرتّب فيها أفكارنا، نُهدئ مشاعرنا، ونعود منها بقلوب أكثر وعياً ورحمة. فليس المطلوب أن نُتقنه فوراً، بل أن نمنح أنفسنا فرصة، خطوة بخطوة حتى نصل.
ما أجمل أن تقترب من مشاعرك بلا خوف، أن تنصت لها وكأنك تُصغي لصديق عزيز. فبعض السلام لا يأتي من تغيّر الظروف، بل من فهم أعمق لما يجري في داخلك.
0 تعليق