حرب إيران وإسرائيل ... حين يصبح الزعفران أهم من الصواريخ - لايف نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تم النشر في: 

20 يونيو 2025, 10:23 صباحاً

وسط ضجيج الأخبار العاجلة، وتحليلات الصراعات العسكرية، وتغريدات الذعر، يتسلل صوت خافت من أعماق المجتمع؛ صوت الإنسان العادي. ذاك الذي لا علاقة له بحسابات الجغرافيا السياسية، ولا يعنيه مَن يطلق أول صاروخ أو يَرُدُّ عليه، بل ينشغل بأمر أكثر بساطة، وأكثر واقعية: كم سيصبح سعر الزعفران لو اندلعت الحرب؟

انتشر في الأيام الماضية منشور ساخر لعائلة تتحدث عن الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران، وتقطع نقاشَهم مداخلةُ والدتهم المفاجئة: «الله يستر ... أكيد بيغلى الزعفران». قد يُخيَّل للبعض أن هذا تعبير عن جهل. لكنه في الحقيقة مرآة صادقة لانشغالات عامة الناس، ولمدى بُعدهم عن صراعات تُصنع خلف أبواب مغلقة، وتُروَّج في نشرات الأخبار، لكنها لا تغيِّر في يومياتهم سوى الأسعار، والانقطاعات، ونشرات التحذير.

في خضم كل صراع عسكري أو أزمة إقليمية، هناك طبقتان من التفاعل الشعبي: الأولى، تتمثل بجمهور التهويل والتحليل المجاني، ممن يملؤون وسائل التواصل الاجتماعي بالشائعات والتوقعات، ويبنون سيناريوهات نهاية العالم. هؤلاء يتناقلون رسائل مجهولة المصدر تتحدث عن ضرب قواعد عسكرية في المنطقة، وانقطاع الإنترنت، وتدمير مدن بأكملها، دون تثبُّت أو عقلانية.

أما الطبقة الثانية -وهي الغالبة والأكثر صمتًا- فهي فئة الناس العاديين، الذين يستيقظون صباحًا ليلحقوا بأعمالهم، أو ليأخذوا أطفالهم إلى المدارس. لا يعنيهم كثيرًا إن كانت الطائرات الإسرائيلية دخلت الأجواء الإيرانية، أو إن كانت إيران أطلقت طائرة مسيَّرة على تل أبيب، بل ما يعنيهم هو: هل سيؤثر هذا على معيشتنا؟ هل ستزيد أسعار الوقود؟ هل سيتوقف استيراد الزعفران الإيراني؟

من الطبيعي أن يهتم الناس بقضايا المنطقة، لكن من غير المقبول أن يتحوَّل هذا الاهتمام إلى ذعر جماعي أو نشر عشوائي للشائعات. كم من تسجيل صوتي أو مقطع ڨِديو أو تغريدة انتشرت بسرعة البرق، تروِّج لمعلومات مضللة أو مضخَّمة، ثم تبيَّن لاحقًا أنها لا أساس لها من الصحة؟ وكم من حالة هلع جماعي نشأت فقط بسبب مقطع مجهول انتشر في مجموعة «وَتْساپ »؟

الوعي الاجتماعي هنا لا يعني أن ينغلق الناس على أنفسهم ويتجاهلوا ما يدور من حولهم، بل أن يتحلَّوْا بعقلانية التلقي، وحكمة النشر. ليس كل ما يُرسَل يجب أن يُعاد إرساله، ولا كل ما يُقال يُبنى عليه موقف أو خوف أو ردة فعل، خصوصًا في زمن تُصنع فيه الشائعة في خمس ثوانٍ، وتُوزَّع على ملايين الناس في خمس دقائق.

عندما تتحدث امرأة بكل صدق عن قلقها من ارتفاع سعر الزعفران بسبب الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل، فهي في الحقيقة تُعبِّر عن قاعدة إنسانية ثابتة: الناس لا يخافون الحرب لأنها حرب، بل من تبعاتها عليهم. الحرب بالنسبة لربة المنزل تعني غلاء الأسعار، وبالنسبة لسائق الأجرة تعني نقص الوقود، وبالنسبة للطالب تعني تأجيل اختبارات أو تعطيل دراسة. الحرب لا تُقاس بعدد الصواريخ، بل بعدد الهموم الجديدة التي ستضاف إلى حياة الناس.

وكم هو مؤلم أن نرى كيف يتحوَّل قلق الناس البسيط إلى مادة للسخرية أو التهكُّم. من الطبيعي أن تقلق سيدة على الزعفران، تمامًا كما يقلق مزارع على طعام ماشيته، أو تاجر على تأمين بضاعته، أو شاب على فرصة عمله. الحرب ليست سِنِما نتابعها من بعيد، بل زلزال يمتد أثره إلى كل بيت، حتى وإن لم يُقصَف.

من المسؤولية الأخلاقية، بل والوطنية، أن يحرص كل فرد على أن يكون مصدر طمأنينة لا مصدر فزع. في لحظات التوتر، تصبح الكلمة أخطر من الرصاصة، وتصبح الشائعة أكثر فتكًا من السلاح. وقد نهانا ديننا، قبل أي قانون، عن نقل الأخبار دون تثبُّت. قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ﴾ [سورة الحجرات: الآية 6]. والتَّبَيُّن لا يعني فقط التأكُّد من الخبر، بل التفكير: ما الذي سيضيفه هذا الخبر على الناس؟ هل هو حقيقي؟ هل هو ضروري؟ هل سيكون له أثر إيجابي أم سلبي؟ هل أنا أشارك في نشر وعي، أم أوزِّع الذعر بالمجان؟. ما يمكننا فعله -كمواطنين- هو أن نحافظ على وعيٍ مجتمعي سليم، ونساهم في نشر الطمأنينة، ونتجهز للأزمات من دون ذعر، ونترك الأمور السياسية لأهلها. وأن لا نُسلِّم عقولنا لأهواء من يهوى الفوضى.

في كثير من الأزمات، لم تكن الحرب الحقيقية هي الصواريخ، بل المعلومات. كم من مجتمع تفكك نفسيًّا بسبب شائعات، حتى من دون أن يُمَسَّ بسوء مادي. وكم من دول أرهقتها الرسائل الكاذبة أكثر من الطائرات المعادية، خصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي أصبح لاعبًا محوريًّا في كل أزمة، وللأسف كثيرون يستعملونه دون وعي أو مسؤولية. لذا، فإن وقوف الإنسان العادي أمام «زر الإرسال» على وسائل التواصل الاجتماعي، هو موقف أخلاقي. إما أن يكون فيه شريكًا في التهويل، أو حاجزًا أمام سيل الفوضى.

الزعفران، بكونه أحد المنتجات المرتبطة بإيران، أصبح فجأة رمزًا لما يعنيه الأثر الحقيقي للحرب على الناس. ربما لا يعرف كثيرون مواقع المفاعل النووي الإيراني، أو عدد الطائرات الإسرائيلية، لكنهم يعرفون بالضبط كم كان سعر الزعفران قبل أسبوع، وكم صار الآن.

الناس لا تريد حروبًا، بل استقرارًا. لا تبحث عن انتصارات إعلامية، بل عن طمأنينة معيشية. وإن كانت السيدة التي خافت على الزعفران تمثل «السطحية» في نظر بعضنا، فهي في الحقيقة تمثل «الواقع» في حياة الأغلب. فلنحافظ على هذا الواقع، ولا نسمح للشائعات أن تحرقه.

أخبار ذات صلة

0 تعليق