28 يونيو 2025, 11:53 صباحاً
مع استمرار الصراع الدامي في السودان، الذي اندلع في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تتكشف مأساة إنسانية غير مسبوقة تدفع ملايين السودانيين إلى حافة الهاوية، فبينما تتصاعد حدة القتال وتتسع رقعته، يجد المدنيون أنفسهم محاصرين في دوامة من الجوع القاتل، ويلجأ الكثيرون إلى حلول يائسة لدرء شبح المجاعة، حيث أصبحت الأعشاب والنباتات البرية، مثل نبتة "خديجة كورو"، طوق نجاة مؤقت في بلد كان يُعرف ذات يوم بسلة غذاء العالم، وهذه الكارثة، التي تعد الأكبر من نوعها عالمياً، تتفاقم بفعل ارتفاع جنوني في الأسعار، وقيود مشددة على وصول المساعدات، وتقلص حاد في الأراضي الزراعية، مما يجعل مصير 24.6 مليون شخص – ما يقرب من نصف سكان السودان – مجهولًا.
واقع قاسٍ
وفي ظل هذه الظروف القاسية، يروي "أ.ح"، وهو مدرس متقاعد يبلغ من العمر 60 عاماً، كيف أصبحت نبتة "خديجة كورو" بلسماً شافياً له ولغيره من الجوعى، ويصفها في قصيدته بأنها "بلسم انتشر عبر مساحات الخوف"، وأنها كانت السبب في بقائهم على قيد الحياة، لقد اضطر هو وغيره إلى غلي هذه النباتات في الماء مع قليل من الملح لدرء آلام الجوع، في مشهد يعكس حجم المعاناة التي يعيشها السكان، وهذه الشهادات المباشرة، التي يفضل أصحابها عدم الكشف عن أسمائهم كاملة خوفاً من انتقام الأطراف المتحاربة، تسلط الضوء على الوضع المتردي الذي يواجهه الملايين، وفقًا لـ"أسوشيتد برس".
وتنتشر مأساة انعدام الأمن الغذائي بشكل خاص في مناطق مثل إقليم كردفان وجبال النوبة ودارفور، وتشير ماتيلد فو، عاملة إغاثة من المجلس النرويجي للاجئين، إلى صعوبة الوصول إلى مناطق مثل الفاشر ومخيم زمزم، ويعيش السكان هناك على وجبة واحدة يومياً، غالبًا ما تكون عبارة عن عصيدة الدخن، وفي شمال دارفور، بلغ اليأس حداً جعل البعض يمتص الفحم لتخفيف الشعور بالجوع، وهذه المناطق، التي كانت تعاني بالفعل من هشاشة أمنية، أصبحت اليوم مسارح لكارثة إنسانية صامتة، مع تدهور مستمر في الأوضاع المعيشية.
دعوات إغاثية
ومع تصاعد الأزمة، تتوالى الدعوات لوقف القتال وتيسير وصول المساعدات. في محاولة لتخفيف المعاناة، طلب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، من قائد الجيش السوداني الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقف إطلاق نار لمدة أسبوع في الفاشر لتسهيل توصيل المساعدات، ورغم موافقة البرهان، يظل مصير هذه الهدنة غير مؤكد بانتظار موقف قوات الدعم السريع، وهذا التنسيق المتقطع للمساعدات، الذي لا يوفر سوى راحة طفيفة، لا يلبي الاحتياجات الهائلة للسكان، كما يوضح "أ.ح" الذي تعاني عائلته في الأبيض من ارتفاع الأسعار وصعوبة تأمين الغذاء.
وعلى الرغم من تصريحات وزير الزراعة السوداني أبو بكر البشاري، في أبريل الماضي، التي نفت وجود مجاعة في البلاد، مؤكداً وجود نقص في الإمدادات الغذائية في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، فإن الواقع على الأرض يتحدث عن نفسه، وتشير ليني كينزلي المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي في السودان، إلى أن 17 منطقة في الجزيرة، ومعظم منطقة دارفور، والخرطوم، بما في ذلك جبل أولياء، معرضة لخطر المجاعة، ويتلقى البرنامج مساعدة لأكثر من 4 ملايين شخص شهرياً، منهم 1.7 مليون في مناطق تواجه المجاعة أو معرضة لها.
قيود قاتلة
والوضع في السودان يتفاقم بسبب تداخل صراعات متعددة؛ فإلى جانب القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، هناك صراع آخر مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال، وهذه التحديات مجتمعة تجعل الوصول إلى الغذاء والماء النظيف والأدوية أمراً شبه مستحيل، ولا يستطيع "أ.ح" السفر إلى الأبيض لزيارة عائلته بسبب حواجز الطرق التي تضعها قوات الدعم السريع، كما أن العنف والنهب جعلا التنقل محفوفاً بالمخاطر، مما يجبر السكان على البقاء في أحيائهم، وبالتالي يحد من وصولهم إلى الغذاء والمساعدات، وهذه القيود على الحركة تعني أن شبح المجاعة يطارد السكان في كل زاوية، بينما تتباطأ عملية حصول "أ.ح" على معاشه التقاعدي، مما يضطره للاعتماد على وظائف تدريب مؤقتة لا توفر دخلاً كافياً لعائلته.
وفي مخيم زمزم بجنوب الفاشر، تتفاقم الأوضاع الإنسانية بشكل مأساوي، حيث يشهد المخيم واحدة من أسوأ حالات المجاعة والعنف المتصاعد، ويصف عامل إغاثة سابق في المخيم الوضع بأنه "كأن الناس في انتظار حكم الإعدام"، مع ارتفاع جنوني في أسعار المواد الأساسية، وقد أدت موجة العنف الأخيرة إلى مقتل البعض وتشريد آخرين، وتوفي عدد غير محدد من كبار السن والنساء الحوامل والأطفال بسبب الجوع ونقص العلاج الطبي. هذه المأساة، التي تتكشف فصولها يوماً بعد يوم، تستدعي تحركاً دولياً عاجلاً لوقف الحرب وتوفير المساعدة للملايين المحاصرين في هذه الكارثة الإنسانية، فهل يمكن للمجتمع الدولي أن يتحرك بفعالية لوقف هذا النزيف الإنساني وإنقاذ الأرواح قبل فوات الأوان؟
0 تعليق