هل فقدنا "دور المدرسة" تحت وطأة ضغوط النسب الموزونة للقبول الجامعي؟ - لايف نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تم النشر في: 

07 يوليو 2025, 4:48 مساءً

في الوقت التي يُفترض فيه أن يبلُغ التعليم الثانوي ذروته ونضجه وتأثيره على الطلاب، حيث تتفتّح مداركهم، وتتّسع آفاقهم، وتُصقل مهاراتهم في التفكير والتحليل والاستنتاج والاستدلال؛ انزلقت منظومة التعليم، بطريقة تدريجية بطيئة، إلى اختزال هذه الرحلة التعليمية الممتعة الممتدة لسنوات، في رقمين ناتجين عن اختبارين لا يتجاوز وقت الإجابة عليهما سوى بضع ساعات في نهاية المرحلة الثانوية. إنهما "اختبار القدرات" و"اختبار التحصيلي"، حيث صُمّما، في أصلهما، لضمان قَدْر من العدالة الموضوعية في القبول الجامعي، لكنهما أصبحا مع مرور الوقت "اللاعب" الأكثر تأثيرًا في تحديد مستقبل الطالب، وتحوّلت المدرسة إلى خلفيّة باهتة في مشهد يزداد فيه اختزالها عاماً بعد عام.

كيف وصلنا إلى هذا التحوّل؟ وكيف أُقصيت المدرسة، بكل تاريخها الممتد وممارساتها التربوية، لتكون في هامش سجلات التعليم؟ إنها قصة مأساة صامتة، تُكتب كل عام بحبر يشبه في هشاشته حبر الفواتير الورقية لدى المحلات التجارية الذي يُطمس بسهولة، له ماله وعليه ما عليه من الآثار .

لعلي أبدأ مقالي بفكرة جوهرية، وهي: أن التعليم العام بكل مراحله ومكوناته يُعدّ الوسيلة الأهم والأكثر تأثيراً في المحافظة على الهوية والثقافة والقيم الاجتماعية وسياقها المتّزن الذي يميّز الدول؛ وهو أيضاً، الوسيلة الوحيدة والأهم على الإطلاق لبناء جيلٍ واعٍ منتجٍ له بصمته وتأثيره في بناء الاقتصاد وازدهاره. عندما تنفق الدول مئات المليارات على التعليم العام سنوياً، فإنها تسعى إلى الاستثمار في عقول أجيالها لتحقيق غايات عظمى؛ بعضها جليّ، وبعضها خفيّ، لكنها تسعى بكل مكوناتها ومواردها إلى تحقيق أكبر عائد ممكن على المستوى الوطني والفردي. وتأتي المدرسة باعتبارها "الوحدة المؤسسية الرئيسة للاستثمار في وضع اللبنات الأساسية لبناء وتنمية رأس المال البشري" لتحقيق ذلك. وتأتي المدرسة الثانوية في الحلقة الأخيرة من سلسلة مراحل التعليم العام، وتحتضن الطالب في لحظات بداية نضوجه العقلي، وتفتحه الفكري، وبناء نموذجه المعرفي، وتشكّله الشخصي، وبناء قيمه واتجاهاته وميوله، وتحتضنه في لحظات انطلاق شرارة الاكتشاف والبحث والتقصّي، وتشكّل الوعي بذاته وعالمه المحيط به؛ ثم يأتي القرار، الرسمي وغير الرسمي، باختزال دورها وأثرها، بكامل أبعاده النفسية والتربوية والمعرفية والاجتماعية والاقتصادية، في اختبارين فقط؛ القدرات والتحصيلي. ومن هنا يبدو أننا تكيّفنا حتى نسينا أو تناسينا غاية التعليم. لقد أغفلنا شخصية الطالب وهويته وثقافته وسلوكه وقيمه وانفعالاته وقدراته التي يُفترض أن تبنيها المدرسة، وركّزنا على "درجته" في القدرات والتحصيلي، التي يؤثر فيها عوامل كثيرة منها؛ التدريب المكثّف على نسخ الاختبارات القديمة "التجميعات" التي شكّلت لدينا صورة من صور "تعليم الظل" حيث وجد فيها البعض سوقاً رائجة للكسب المالي، واقتنع الطالب وأسرته، طوعاً أو كراهية، بالنجاحات اللحظية المؤقتة. وكانت هذه هي اللحظة الحاسمة التي أصبحت فيها الوسيلة "الاختبارات" غاية بذاتها، بينما أصبحت الغاية "التعلّم وبناء العقول" وسيلة، وتاه حينها "معنى التعليم" وفُقِد اتجاه "بوصلته".

من الجدير بالذكر أن الاختبارات المعيارية جاءت لتحقيق العدالة التعليمية، وطُبقت بنوايا حسنة؛ لكننا نتساءل الآن، بعد مُضي قرابة عقدين من الزمن على تطبيقها: كيف تثبتنا من تحقيق هذه العدالة؟ وأيُّ عدالةٍ هذه التي تُقصي رحلة الطالب في المدرسة، بما فيها من تعلّم وتفاعل وتقييمات ومشاريع وعروض تقديمية ومناقشات وحوارات واختبارات ومهارات ناعمة وغير ناعمة، وتختزل قيمتها في 30% فقط من قرار القبول الجامعي؛ وفي الوقت ذاته، يعتمد قرار القبول على أرقام تنتج عن اختبارين تُجرى في أربع أو ست ساعات، وتستأثر بنسبة 70 % في معادلة النسبة الموزونة؛ أيُّ عدالة تلك التي تُحوّل التجربة التعليمية الممتعة لسنوات إلى استعداد متوتر قلق لساعات معدودة في نهاية المرحلة الثانوية بأكملها، ثم تُصدر حكمًا على الطالب وكأنه اختُزل بالكامل في ذلك الرقم المجرد؟ إن عدالة الفرص التي سعت تلك الاختبارات المعيارية لتحقيقها، تحوّلت مع مرور الوقت إلى عدالة شكلّية تُخفي تحتها قلقًا مجتمعيًا عميقًا يتكرر كل عام.

هذا المقال، لا ينتقد الاختبارات المعيارية وأدوات القياس، وذلك لأهميتها الكبيرة جداً في كل المجالات، وتزداد أهميتها في التعليم العام؛ لكن الممارسة الحالية التي انعكست على فلسفة التعليم وأهدافه وغايته دعتني إلى طرح التساؤلات الآتية: أين موقع تلك الاختبارات المعيارية بين مكونات المنظومة التعليمية؟ هل تغيّر دورها وهدفها وخرج عن نطاق أصل وجودها؟ كيف غيّرت تلك الاختبارات المعيارية غاية التعليم العام وأهدافه بطريقة ناعمة؟ قبل التأمل في الممارسات والنتائج، دعونا نتّفق جميعاً أن الاختبارات المعيارية "وسيلة أساسية مهمة" لا "غاية بذاتها"، ولذلك، ينبغي إعادتها إلى دورها الطبيعي وحجمها المناسب ضمن منظومة تعليمية أكثر اتزانًا وإنصافًا وجودةً. ينبغي أن لا نختصر تعليمنا في مهمة فرز الطلاب وتصنيفهم، وأن لا نستخدم "نتائج الاختبارات" في "تصنيف" مدارسنا ومعاقبتها بعيداً عن الجودة النوعية للخدمة التعليمية؛ وبدلاً من ذلك، نوفّر نتائج الاختبارات والتقويم كأدوات داعمة للتطوير والتحسين المستدام، ولدعم القرار في توجيه الموارد واستثمارها بكفاءة عالية.

وفي رأيي، ينبغي أن نُعيد "للمدرسة" دورها واعتبارها بكامل منظومتها: المعلم، الطالب، المواقف الصفية، المشروعات الطلابية، الحوارات البنّاءة، الأنشطة، الزيارات الميدانية للمصانع والمؤسسات وغيرها، لكي نستثمر ما يُبنى فيها خلال 12 عاماً من التعلّم وتشكيل الهوية والشخصية؛ ولا نُقصى أو نهدم رحلة تعليمية شاملة ممتعة استمرت لسنوات. إنه من المفترض أن تكون المدرسة ميدانًا لتحفيز العقل، ومساحةً للبحث عن المعرفة، لكن ما يحدث فعلاً قد يكون مختلفاً عن ذلك. فالمدرسة هُمّش دورها في المنظومة التعليمية إلى حدّ كبير، وأوشكت على الاختفاء من معادلة الثقة المجتمعية، وتراجعت مكانتها في البنية الاقتصادية، وتحوّلت إلى محطة انتظار مؤقتة يمر منها الطالب إلى بوابة اختبارات القدرات والتحصيلي ليدخل منها إلى منصة الحكم والفرز والتصنيف، فتُقرر وحدها بسيطرة شبه تامّة من يستحق العبور للجانب الآخر من مساحات بناء العقل والفكر في الجامعات، ومن يُترك على قارعة الطريق تائهاً لا يجد من يوجّهه. فالمدرسة لم تُجهّزه مطلقاً لمواجهة هذا الموقف، لا فكراً، ولا مهارةً يستطيع بها الانخراط في سوق العمل أو ابتكار ما يضمن له دخلاً مناسباً. وإذا لم يكن ذلك الآن، فمتى نُعيد صياغة الرواية "رحلة التعليم" لننقذ بطلها "الطالب" قبل فوات الأوان؟

كيف تحوّل التعليم من تجربة حياتية ثرية إلى رحلة استعداد قلقة لاجتياز اختبار معياري؟ هذا السؤال لا تُجيب عليه آراء عابرة أو تخمينات تراكمية أو توقعات اعتباطية؛ إنه يحتاج وقفة تأمل حقيقية، لننظر ونتفحّص المسار الذي سلكه التعليم حتى انحرف عن كونه تجربة إنسانية شاملة متكاملة، إلى حالة من استعداد مشحونة بالقلق والخوف والترقّب والانتظار لاجتياز اختبارين لا يعكسان بالضرورة عمق التعلّم ولا جوهر شخصية الطالب "الإنسان". لقد كان التعليم، في حقيقته التي تسعى لها الدول دائماً، رحلة متكاملة، تُصّمم برامجها وأنشطتها في أُطر الفلسفة والسياسات التعليمية، وتنفّذ في الفصول الدراسية من خلال المواقف التعليمية، والمشروعات الجماعية، والحوارات البنّاءة؛ لتبني ذاكرة معرفية وشخصية قويّة متماسكة، يتشكّل منها الطالب بصفته إنساناً مفكرًا، فضوليًا، باحثًا، ناقدًا، متسائلًا، متفاعلًا مع مجتمعه ومشاعره وأحلامه وطموحاته. لقد كانت المدرسة فضاءً آمنًا للتجريب والتقصّي، للخطأ والتعلّم، للسقوط والنهوض من جديد، للبحث والاكتشاف، ولم يكن الطالب فيها مجرّد متلقٍّ، بل كان شريكا في إنتاج المعرفة وتوظيفها، وبناء ذاته وتطويرها. لكن شيئًا ما تغيّر عندما أصبحت اختبارات القدرات والتحصيلي بوابة حصرية لمستقبل الطالب التعليمي، وتحوَّل التعليم إلى سباق مرهق، هدفه عبور خط النهاية للتعليم العام: " درجة أعلى في القدرات والتحصيلي".

وهنا بدأ الانحراف عن الهدف الأسمى، وبدلاً من هندسة التفكير عند الطلاب، قامت المدرسة بإعادة هندسة اليوم الدراسي ليتماشى مع متطلبات "أسئلة القدرات والتحصيلي". انتقل تركيز الحصص من مهارات التفكير والحوار إلى إستراتيجيات الإجابة عن أسئلة القدرات والتحصيلي. لقد أصبح المعلم بطريقة ضمنية مركّزاً على إعطاء التعليمات والتكتيكات للتعامل مع اختبارات القدرات والتحصيلي؛ وبدلًا من قراءة نص أدبي وتحليله، أو فهم مسألة رياضية وطريقة التفكير في حلّها، أصبح التوجّه نحو تدريب الطالب على "اختيار الإجابة الصحيحة" من قائمة أسئلة النُسخ السابقة. أمّا الأسرة، فهي بدورها، تلقائياً، انجرفت مع موجة البحث عن عبور بوابة القبول بأي وسيلة وثمن. فلم تعد تسأل: ما الذي تعلّمه ابني/ بنتي هذا الأسبوع في المدرسة؟ لكنها تسأل: كم قضى من الوقت لحل أسئلة "تجميعات" القدرات؟ وأصبحت الأسرة تبحث مع أبنائها عن أفضل المدربين ومراكز التدريب التي ستُعدّهم لاجتياز اختبار القدرات والتحصيلي "تعليم الظلّ" لضمان القبول الجامعي. هنا بدأت تظهر فئة جديدة من "معلمي القدرات" في تعليم الظل، وجُلّ عملهم هو التدريب على نماذج سابقة، وإعادة تدوير الأسئلة القديمة المنشورة في مواقع الإنترنت. وهنا لي وقفة استدراكية بسيطة: "إن التدريب على نماذج الاختبارات ليس خطأ إطلاقاً"، ولكن عندما تصبح الاختبارات المعيارية غاية بذاتها، فإن "قواعد اللعبة" في المنظومة التعليمية بأكملها تتغيّر تماماً وتتبدل الأدوار للجميع. فالطالب المحظوظ سيلتحق بالجامعة لحصوله على درجات عالية في القدرات والتحصيلي، لكنه غالباً يفتقد لأدوات التفكير والتحليل والبحث والتقصّي؛ لأنه لم يُطلب منه يومًا أن يفكّر، وإنما يحفظ ويسترجع ليُجيب على السؤال؛ وطالب آخر غير محظوظ سيشعر بالإحباط حين ترفضه الجامعة بسبب درجته المتدنية في القدرات والتحصيلي، والتي لا تعكس ما تعلّمه أثناء رحلته التعليمية، ولا تعبه واجتهاده، ولا قدراته الحقيقية، ويتكوّن داخله رفضٌ خفيّ للتعليم والتعلّم، وربما يفقد ثقته في نفسه. إننا باختصار، لم نعد في المدرسة نُعلّم من أجل الحياة والتنمية والإعمار، وأصبحنا نُدرّب معظم الوقت من أجل ساعة اختبار. وهكذا، بدأ التحوّل الخطير: من تعليمٍ يغيّر الحياة، إلى تعليمٍ يتكيّف مع الاختبارات. ومن المعروف عند كل لبيب، أن العقل عندما يُحاصر في التعليم بهذه الطريقة، فإن أول ما يُغادر منه: "المعنى والقيمة" وتبقى "القشور المؤقتة".

وأخيراً، دعونا نتعمّق قليلاً في التأمل ونتساءل: ماذا عن النظريات التربوية وتوظيفها؟ ماذا عن فكر بياجيه، وفيغوتسكي، وجون ديوي، وسكنر وبرونر وجاردنر، وكل من قال: التعلّم الحقيقي هو تفاعل اجتماعي، وبناءٌ نشط للمعرفة، وعملية تشكيل إنسان متكاملة؟! للأسف ! لقد سُحقت كل هذه النظريات تحت قبضة ووطأة اختبارات القبول الجامعي "القدرات والتحصيلي" الذي لا يعترف إلا بـ"الرقم المجرّد"، ولم يُعد لهذه النظريات وجود سوى في كتب المقررات الجامعية وأسئلة اختبارات المعلمين. ولعلي هنا أطرح سؤالاً للجامعات ومراكزها البحثية: ما أثر اختبارات القدرات والتحصيلي على جودة مخرجات التعليم الجامعي؟ هل دُرس الموضوع وأُشبع بحثاً حتى أصبحت الممارسة من المسلّمات، وأصبحت النسب المحددة لتلك الاختبارات في معادلة النسبة الموزونة أرقاماً سحريّة لا يمكن المساس بها؟ هل تؤكّد الجامعات باستخدام هذه الاختبارات المعيارية عدم ثقتها في ممارسات مدارس التعليم العام ومخرجاته، وقادها ذلك على الإصرار في حصر قيمتها وأثرها في 30% في معادلة النسبة الموزونة للقبول؟

السؤال الأخير الذي ينبغي أن نُطيل التأمل فيه بحثاً عن الإجابة: من الضحية الحقيقية لهذه الممارسات؟ في رأيي، إنها منظومة التعليم بأكملها. قد تتفق معي، وقد تختلف، لكنه عندما يُفقد المعنى "في التعليم والتعلّم"، يُفقد معه الهدف والرغبة والشغف. ولكي نخرج من هذه الأزمة، نحن بحاجة إلى تغيير مفاهيمي كبير في المنظومة التعليمية، بعيداً عن ترقيعها المجزأ، وبحاجة إلى فلسفة تعليمية جديدة تكتشف الطالب وتدعمه ليتعلّم، وبحاجة إلى تقويم يقيس الفهم العميق لا السطحي، والتفكير لا الحفظ، والتعلّم لا اجتياز الاختبار، وبحاجة إلى مدرسة تستعيد مكانتها كبيئة حاضنة آمنة تشكّل الهويّة والعقل، وتنمّي التفكير.

أخبار ذات صلة

0 تعليق