مناخ القادمين إلى بيروت - لايف نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تم النشر في: 

16 يونيو 2025, 2:23 مساءً

يحفل تاريخ العرب برجالٍ أدّوا أدوارهم في صمت، ولم يكونوا من أصحاب الأضواء أو المناصب، لكن أثرهم بقي حاضرًا في الذاكرة العامة. بعض الأسماء لا تُعرف بكثرة الكلام عنها، بل بتكرار الإشادة بها من أولئك الذين خَبِروا التعامل معهم في مواقف الحياة الحقيقية. حمد اليحيا، أحد هؤلاء. عاش فترةً من الزمن في بيروت، وكان خلالها نموذجًا لرجل عادي في مظهره، مختلف في أثره.

ولد حمد اليحيا في حائل، في بيئة محافظة، وتربّى على قيم الاعتماد على النفس، والاحترام، وخدمة الآخرين. ومع بداية رحلته إلى بيروت أواخر الأربعينيات، لم يكن يمتلك سوى عزيمته وخبرته المحدودة، لكنه سرعان ما أصبح اسمًا مألوفًا لدى كثير من السعوديين الذين زاروا لبنان للعلاج أو الإقامة المؤقتة. لم تكن بيروت حينها مدينة يسهل التنقل فيها، وخصوصًا لمن يخرج للمرة الأولى من قريته أو مدينته. وكان لبنان مقصدًا صحيًا وتعليميًا مهمًا لأهل الجزيرة والخليج، خاصة من نجد.

في هذا السياق، لعب حمد اليحيا دورًا بسيطًا لكنه مؤثر. استقبل القادمين، ووجّههم، وساعدهم في التنقل بين المستشفيات والأطباء، وسخّر من يعمل معه لمرافقتهم، وسدّ ما نقص من نفقاتهم دون أن يُشعرهم بأنه صاحب فضل. لم يطلب مقابلًا، ولم يتحدث كثيرًا عما كان يفعله. اكتفى بأن يكون حَاضرًا لمن يحتاجه، وصامتًا حين لا يُطلب منه شيء.

كان واضح الأهداف، عصاميًا في تكوين نفسه، متوازنًا في تعامله مع الناس، وملتزمًا بأخلاق يندر أن يُشار إليها دون أن تُربط بمواقف ملموسة. لم يكن من أصحاب العبارات الطنانة، لكنه ترك لمن عرفه صورة إيجابية مستقرة، تدفعك لاحترامه وإن لم تلتقه. في بيروت، أصبح اسمه متداولًا بين السعوديين باعتباره وجهًا مألوفًا، ورجلًا يمكن الاعتماد عليه. لم يكن مسؤولًا رسميًا، لكنه أدى دورًا لم تؤده مؤسسات.

لا يمكن اختزال قيمة الإنسان فقط في ما يملك، بل فيما يُقدّم. وقد قدّم حمد اليحيا الكثير، دون أن يطلب من أحد الاعتراف. كان وجوده بالنسبة للبعض ضمانة نفسية، وشعورًا بالأمان في غربة غير مألوفة. ومرت السنوات، وبقيت سيرته تُذكر بين أبناء الجيل الذي عرفه، أو سمع به ممن سبقهم، دون أن تُنسب إليه سوى صفة واحدة: رجل كريم بطبعه، هادئ في حضوره، فاعل في أثره.

من يكتب عن الراحل لا يهدف إلى تضخيم شخصه، بل إلى الإضاءة على نموذج يستحق التقدير. لم يُعرف بأنه رجل سلطة أو ثروة طاغية، لكنه قدّم صورة محترمة لرجل نذر وقته وجهده لخدمة أبناء وطنه في زمن لم يكن فيه كثيرون يهتمون بتفاصيل الغربة وتحدياتها. عايش كثيرون تلك المرحلة، وبعضهم لم ينسَ اسمه، لأن الفعل الصادق لا يُنسى، حتى وإن مرّ عليه الزمن.

إن الحديث عن مثل هذه الشخصيات ليس استذكارًا لماضٍ مثالي، بل تذكيرٌ بقيمة الأثر الإنساني الذي يبقى أطول من أي ضوء إعلامي. فالناس في نهاية المطاف، لا يخلّدون الأقوى، بل الأكثر نفعًا، والأقرب إلى حاجاتهم حين كانت في أمسّها.

رحم الله أبا محمد، وخلّد ذكره، وجعل ما قدّمه في موازين أعماله. ونقولها بتجرد: إن من مارس البذل دون منّة، وخدم دون ضجيج، يظل في الذاكرة العامة حاضرًا، وإن غاب جسده. وما هذا المقال إلا محاولة بسيطة لردّ الجميل لرجلٍ فعل الكثير، دون أن يطلب شيئًا في المقابل.

اللواء متقاعد / سعود بن مشعان الدخيل

أخبار ذات صلة

0 تعليق